ليس الحديث عن “غزة من منظورٍ جندريّ” ترفًا أو استعارة دخيلة، كما يحاول البعض تصويره، بل هو قراءة في عمق التجربة الفلسطينية: حيث تتقاطع الإبادة الاستعمارية مع البنى الأبوية، ليتضاعف الأذى الواقع على النساء وتُختَبَر قدرتهنّ على تحويل الألم إلى فعلٍ مقاومٍ وإلى حياة تستحق أن تُعاش.
منذ اللحظة الأولى للعدوان، كانت النساء في قلب المشهد — في الخيام، في المستشفيات، في ساحات الإغاثة، وفي الميدان الإعلامي. وبينما أدار العالم ظهره لصور الأطفال الجائعين، كانت نساء غزة يخبزن على النار، يداوين الجرحى، ويحمين ما تبقّى من معنى للبيت والوطن. وفي المقابل، كانت الفلسطينيات في الداخل والشتات يحرّكن الرأي العام، وينظمن الوقفات، ويكتبن ويترجمن ويُواجهن الرواية الاستعمارية التي تحاول نزع الإنسانية عن الغزيات والغزيين.
هذا هو الفعل النسوي في زمن الإبادة: ممارسة يومية للمقاومة، تمتد من الصمود على الأرض إلى الصراع على السردية، ومن الرعاية في المخيم إلى المنابر الدولية.
تقاطع الاحتلال مع البنى الأبوية
حين نناقش “الهيمنة الأبوية” في سياق غزة، فنحن لا نقلل من وحشيّة الاحتلال، بل نحلل كيف يتقاطع هذا الاحتلال مع أنماط القهر المحلية، وكيف تتحول أجساد النساء إلى ساحات حرب رمزية وجسدية في آنٍ واحد. فالاحتلال يُعيد إنتاج البنى الأبوية ويدعمها، وهذه البنى بدورها تبرر تهميش النساء وإقصاءهنّ عن القرار والمشاركة. نحن لا نتحدث عن “الرجل الفلسطيني” بل عن نظام اجتماعي سلطوي يحصر النساء في موقع النجاة لا القيادة، في موقع الرعاية لا القرار — حتى في الحرب، وحتى في المقاومة.
من الداخل الفلسطيني: مقاومة نسوية شجاعة
منذ اليوم الأول للإبادة، كان فعل النساء هنا جريئًا ومباشرًا. وضعنا كل ما بنيناه خلال سنوات على المحك، في لحظةٍ تحوّل فيها كل صوت خارج الرواية الرسمية إلى هدفٍ للتخوين والمحاسبة. رفضنا توقيع عرائض تُفرض علينا، ورفضنا تمويلًا يُناقض موقفنا الإنساني والوطني. اخترنا أن نكون في الميدان، لا في الصمت.
تحركنا في التضامن والإغاثة، وفي حمل الرواية الفلسطينية من داخل المدن التي يُحاول الاحتلال خنق صوتها. حملنا أسماء الشهيدات والأطفال الشهداء في قلب تل أبيب، كسرنا جدار الخوف في حيفا، ونظمنا في الناصرة ستًّا وعشرين وقفة احتجاجية متتالية رغم التهديدات والمنع. لم نرفع شعارات عامة فقط، بل أفسحنا مساحة لصوت النساء والفتيات، كي نُذكّر بأن الحرب على غزة ليست فقط حربًا على الأجساد، بل أيضًا على الكرامة والمعنى والأمان الإنساني.
كتبنا، صرخنا، وثّقنا الانتهاكات، ركّزنا على فقدان المأوى، على الولادات القسرية تحت الأدوات البدائية أو تحت الركام، على الأمهات اللواتي يدفن أبناءهن، وعلى الناجيات اللواتي يحملن أعباء حياةٍ بلا بيت وبلا مأمن. كان هذا كله فعلًا نسويًا تحرريًا — مقاومة حيّة تعيد تعريف الشجاعة والمعنى السياسي للرعاية.
تواصلنا مع أخواتنا في غزة. هذا دورنا. لا نزاودة ولا إعلان؛ هذا واجب نسوي وإنساني. كل خيمة أمّناها، كل مساحة رعاية، كل صرخة في الشارع — كانت من أجل حياة أخريات، لا من أجل الصورة ولا من أجل المكاسب السياسية.